29 يناير 2011


أين أبي أبدا لا يراه الأبي

رشيد لعناني
هسبريس : 13 - 04 - 2010
لطالما فجعت أنظار و أسماع كثير من المغاربة الأحرار المسلسلات المكسيكية و أمثالها التي تسلسل العقول و تبدي كل شيء إلا المعقول، تكشف المستور و تطبل للفجور، تجتث السرور و تفسد ذوات الخدور. هذا المسلسل الهابط و الذي لم أره قط عاث في نفوس العباد فسادا و أشعل فتيل الفتن بل و أضرم نيرانها إضراما. لو رأيت بعض اللقطات لكان الوصف أبلغ و الكلام أفصح و لكن على كل حال نكتفي بروايات الناس التي تواترت على قبحه و شناعته.
الإشكال هو أن المسلسل المذكور آنفا استطاع أن يكتسح الشرائح التي كانت نسبيا في منأى عن هذا الهراء باستعمال اللغة العامية في إطار سياسة تقريب الفحش و التطبيع مع الإباحية. و لا شك أن هذا الاكتساح المهول ناتج عن دراسة قبلية مستفيضة من قبل أعداء الأمة. لكن ما أن تفصح عن رأيك التلقائي حتى يعترض البعض من بني جلدتك قائلا تفتأ تومن بنظرية المؤامرة حتى تنسب كل الإخفاقات إلى العدو و تغض الطرف عن الكبوة الذاتية فالأمر لا يعدو كونه شيئا عاديا فلم التعجب و الاستغراب؟
سلوا أساتذة التعليم الابتدائي المنصفين عن عواقب هذا الفيلم الخبيث المباشرة في فصولهم الدراسية. عندما كان يعرض "أين أبي" على الشاشة الصغيرة عجت أقسام الثانية و الثالثة ابتدائي في غير ما موضع بالرسائل الغرامية المتبادلة بين البنين و البنات. هذا في صفوف تلاميذ الابتدائي الذين لازالوا في حاجة إلى من يعينهم على ارتداء ملابسهم و تناول طعامهم فما بالك ببنات و أبناء الثانوي التأهيلي؟! وقع ما سمعتم تأسيا بالفرخين الصغيرين "فرخيليتو" و "فرخيليتا".
و كما تعلمون منذ زمن أصبحت التربية منفصلة عن التعليم كل في واد ينغمسون.. أين دور المدرسة ،بيت التلميذ الثاني الذي يقضي فيه معظم وقته، في تبيين الصالح من الطالح و السمين من الغث، لكن الطامة إذا كان المدرس عينه ،ذلكم الإمام الذي رجونا بركته فوطئ زرابي المسجد بحذائه، يسهر مع " أين أبي"! كيف يستقيم الظل و العود أعوج؟ أين دور الراعي في البيت الذي فغر فاه بصحبة رعيته أمام صندوق الغرائب و الأعاجيب، قد جمع أبناءه و بناته و ندموا أشد الندم على تفويت حلقة من الحلقات الشيقة! و نسوا أو تناسوا أن خير سلف هذه الأمة كانوا يجمعون فلذات أكبادهم على كتاب ربهم و سنة نبيهم و على العلوم النافعة الماتعة الشاهدة على الأنفاس و الحركات. يفعلون ذلك لأنهم يعلمون أنهم موقوفون غدا بين يدي الله حفظوا أم ضيعوا. قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس و الحجارة"(المائدة/الآية6.) قال ابن عباس حبر الأمة و ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية "علموهم و أدبوهم" و لم يقل أبدا اتركوا لهم الحبل على الغارب و اجتمعوا معهم على موائد اللهو و العري.
تبلد الإحساس و ماتت القلوب بسبب الإعلام و غيره حتى أصبحت بناتنا يلجن فصول الدراسة شبه عاريات فإذا أبدى المدرس ملاحظة في الصميم أجابه الأب " مالك متزمت إلى هذا الحد أو أنت الذي تنفق عليها و تشتري لها الملابس ذات الأناقة و الشهرة؟!" وتبسم لها رئيس المؤسسة و صفق لها زملاء القسم و باركت الأم صانعة الأجيال صنيع قرة عينها و ثمرة فؤادها فأين الحق من الباطل و أين الأمانة من الخيانة و أين النصح من الغش؟ نقدم مسلسلا، يبارك أبناء السفاح و يطمر فكرة النكاح الشرعي، كل واحد فيه يبحث عن أبيه و نستغرب لماذا تعد حالات الإجهاض بالمئات يوميا.
لا بأس كذلك أن نذكر ما روي من جهات كثيرة و ما وقع في إحدى قرى سيدي حجاج ، إقليم سطات بسبب "أين أبي". التف جميع أهل البيت مشدوهين مهتمين منشغلين بآخر الأحداث و التفاصيل. استغل اللصوص السانحة فدخلوا بكل أريحية و اقتادوا كل البهائم في الزريبة إلى وجهة غير معروفة شامتين فرحين ثم كتبوا على الجدران "غدا كونوا على الموعد مع ماركريتا في نفس الوقت" أو كما قالوا. ثم ذروني أذكر لكم ما وقع على مقربة منا في بيت عزاء من جراء هذه المصيبة المرئية التي ما أن تنتهي حتى تعقبها داهية و طامة أطم منها. في موعد الفيلم بالذات ذهب الناس يعزون في الميت الذي لم يمر وقت كبير على دفنه فإذا بيت العزاء شبه فارغ، الكل ذهبوا يتفرجون و رجعوا بعد ذلك يقهقهون و يحكون لبعضهم البعض آخر المستجدات. إن لم يؤثر الموت، الموعظة الصامتة، و القرآن الموعظة الناطقة، فينا فما الذي سيزعزع قلوبنا و يعيدنا إلى صوابنا؟
أنا متأكد أن كثيرا من الوقائع المريرة و المآسي المزعجة حدثت بسبب هذا الفيلم الرخيص، منها ما يحير الألباب و منها ما يجعلك تسكب العبرات أسى و منها ما يجعلك توقن أن هذا الجيل ليس هو الموعود بالنصر على أعداء الإسلام أينما كانوا و تحرير الأقصى الحزين عجل الله فرجه. الحفريات تتوالى تحت المسجد الأقصى وقف المسلمين و مسرى الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه و سلم و الفلسطينيون يموتون كل يوم و نحن لا هم لنا إلا مشاهدة المسلسلات السافلة و التهريج المبكي. فاللهم رد بنا إليك ردا جميلا و لا تحل بيننا وبين قلوبنا أو تختم عليها فلا نعرف معروفا أو ننكر منكرا و حصن إعلامنا و اجعله خادما لبلدنا لا معول هدم له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق