30 أغسطس 2013

خواطــــــر و جواهــــــر : ذ. رشيد لعنــــــــــــاني

انصرم رمضان الفضيل شاهدا على من عمل فيه و شمر و من نكص على عقبيه و قصر. و القاعدة الذهبية تقتضي أنه من كان يعبد رمضان فإنه رحل و بان ومن كان يعبد الحنان المنان فلا يزال حيا باقيا قويا متينا.
و الحق أن رمضان العظيم مدرسة من اختلف إليها شهرا كاملا ليل نهار و جثا على الركب فيها و انحنى تواضعا و عرف قدره فجلس دونه نال الخير أجمعه و حاز الشرف جله، مدرسة تتأبى على المنافقين المندسين بين الصفوف منذ المرحلة المدنية إلى العصر الإلكتروني، يرسبون فيها بل و يتجرعون مرارة الجوع من غير جني للثمار، يرجعون بخفي حنين كلما أعادوا الكرة فسحقا سحقا. إنه، أي رمضان، مدرسة لا يشرفها الذين لا يركعون و لا يحبون الدين و أهله و يفصلون جهلا أو تجاهلا الدين عن الدولة و مع ذلك يمسكون عن الطعام و الشراب لا خوفا من الجليل و لكن ربما استحياء من بني البشر، مدرسة تتنكر لمن بلغت بهم الجرأة على الله جل في علاه أن يأكلوا و يشربوا  جهارا نهارا عيانا بيانا و هو قادر لولا أنه يمهل و لا يهمل على أن يجمد الدم في عروقهم و يحبس البول فيهم في التو و اللحظة.
علمنا رمضان أنه مدرسة تقرر بأنه بحق و امتياز ميزان العام تماما كما أن الحج ميزان العمر و أن الصلاة ميزان اليوم و الجمعة، ميزان الأسبوع، الكنز الذي وفق إليه الذين أسلموا و حاد عنه الذين هادوا. إن رمضان العظيم محضن تربوي يتعلم فيه الحلم و الصبر الذي لا بد منه في مجتمع تتراكم فيه صنوف الأذى من أناس يحكمون عليك من مظهرك و شكلك و لا يعتبرون الجوهر المخبوء فيك، لا يلتمسون لك عذرا بل يسقطون هيبتك من أول هفوة، يحسدونك ما دمت في نعمة و غضارة و يشمتون فيك ما دمت في حور بعد كور أو سلب بعد عطاء، يمزحون لكن ينبسون بكلام يمص الحشا و يؤلم الفؤاد و يمرض الجنان، يكيلون الشتائم بلسان الحال أو المقال، ظاهرهم مشرق و باطنهم مظلم.
لا جرم أن رمضان بعد شهر من التراويح و التهجد و القيام يريد منك أن تستبقي ركيعات وقت السحر تشكو فيها إلى ملك الملوك ما يضرك و يمرضك و تختم باستغفار لا يحتاج إلى استغفار.
ليس رمضان شهرا يجوع فيه البطن و لكنه شهر تتعود فيه الدعاء سائر العام، سهام بالليل لا تخطي و لكن تنتظر أجلا محتوما فتنفذ و آيات الدعاء في البقرة فسطاط القرآن الموجه إلى رب العباد بدون واسطة توسطت آيات الصيام فافهم. "و إذا سألك عبادي عني" جاءت بين "يا ايها الذين آمنوا متب عليكم الصيام" و "أحل لكم الصيام الرفث إلي نسائكم" فالدعاء هو العبادة سائر العام الذي لا ينفك عنه المومن استخارة و توكلا و رجاء و محبة، أعمال قلبية في أسمى معانيها. يعودك الدعاء بصدق الذي تحتاجه قبيل التسليم و في السجود و حال الطواف بالكعبة و أثناء التضلع من ماء زمزم و عند الصفا و المروة و عند رمي الجمار و الوقوف بعرفة بل و في كل أحيانك.
حقا إن رمضان مدرسة المبرزين الذين بزوا الأقران و خلفوهم وراء ظهورهم، اعتادوا فيها على الذكر الذي أريد منه أن يصير اللسان رطبا به سائر السنة فيرطب القلب و ينفض عنه الغبار و يثبته في الشدة و الأزمة و حال لقاء العدا الخوارين الجبناء رغم عدتهم و عتادهم. إنه ذكر غرسه رمضان فسائل تصير في قابل الأيام نخلا باسقات تهون الصعب و تجعل العبد في معية العليم القدير.
و مسألة أخرى شديدة الأهمية تثبت بوضوح كلما هل هلال رمضان و هي أن ساعات النوم الكافية للإنسان العادي و المحددة في ثمان ساعات أو سبع من قبل بعض علماء الدنيا أكذوبة محضة. فساعات النوم بالليل قليلة يضاف إليها بعض القيلولة بالنهار و مع ذلك تحس بنشاط و حيوية. هي البركة بكل معانيها تتجلى لمن يخلد إلى النوم كلما احتاجه فقط لا من يخلط الليل بالنهار في غمرة من التثاؤب و الكسل و الخمول.
لا غرو، فإن رمضان مدرسة التميز و الإبداع الذي يقرأ فيه القرآن العظيم بكثرة فيجمع المومن من الحسنات أمثال جبال تهامة و من الأنوار طاقات هائلة، إذ أن الألف عشر حسنات و كذا الميم و الزهراوين المنيرتين كأنهما غمامتان تظلان القارئ و تمدانه بالمدد العظيم و عروس القرآن "الرحمان" تثلج الصدر و تجعله يرفل وسط الحور و أنواع الجنان. لكن من شروط المدرسة بعد التخرج أن لا ينسى القرآن و لا يهجر قراءة و تدبرا و تداويا و تحاكما و إلا كان حجة عليك لا لك.
علمنا رمضان أنه مدرسة بل جامعة تعددت شعبها من صلاة و إنفاق و ذكر و خلال طيبة و اعتكاف و هجر للعوائد السيئة و عض على العادات المرضية و صحة عبر التقلل من الطعام ما أمكن. من رسب هذا العام قد يعيد الكرة العام المقبل إن بقي في العمر بقية و إن لم يتفوق العام الآخر أيضا فقد يفصل نهائيا فرغم أنف من أدرك رمضان فلم  يغفر له بل ازداد من مولاه بعدا.
إنها و الله مدرسة لا ترقى إليها أرقى الجامعات و أعرقها و برامجها ربانية إيمانية، بلسم شاف للمومنين تفوق بمسافات و سنوات ضوئية التدابير البشرية و التصاميم الوضعية. بالله عليك كيف يستطيع بشر مهما أوتي من الإمكانات و السلطان أن يجمع الناس كلهم في بيوتهم على مائدة الإفطار عقيب أذان المغرب فلا تكاد تجد أحدا يذرع الشوارع جيئة و ذهابا؟! و بالمقابل عندما يهل هلال شوال تتغير الأمور بقدرة قادر فتجد الشوارع في ذلك الوقت زاخرة بالمارة رجالا و على كل ركوبة. فاللهم ارزقنا دوما صوم العبادة لا صوم العادة و حقيقة الصوم لا صورته حتى نغترف من هذا المعين الذي لا ينضب و الشلال المنهمر دائم التدفق و الجريان. و ختاما جعلني المولى سبحانه بهذه الكلمات متعظا واعظا مستفيدا مفيدا صالحا مصلحا لا جسرا تعبرون عليه إلى الجنة ثم يرمى في سقر.
رشيـــــــد لعنانــــــــــــي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق